تاكيو أوساهيرا
الجزء الأول
يقول الياباني تاكيو أوساهيرا :
ابتعثتني حكومتي للدراسة في جامعة هامبورغ بألمانيا ، لأدرس أصول الميكانيكا العلمية ، ذهبت إلى هناك و أنا أحمل حلمي الخاص الذي لا ينفك عني أبداً ، والذي خالج روحي وعقلي وسمعي وبصري وحسي ، كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً.
كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى موديلاً وهو أساس الصناعة كلها ، فإذا عرفت كيف تصنعه وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها .
وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى المعمل أو مركز تدريب عملي ، أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها ، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها ، ولكنني ظللت أمام المحرك ، أياً كان قوته ، وكأنني أقف أمام لغز لا يحل ، كأني طفل أمام لعبة جميلة لكنها شديدة التعقيد لا أجرؤ على العبث بها .
كم تمنيت أن أداعب هذا المحرك بيدي ، كم أشتاق إلى لمسه والتعرف على مفرداته وأجزائه ، كم تمنيت لمه وضمه وقربه وشمه ، كم تمنيت أن أعطر يدي بزيته ، وأصبغ ثيابي بمخاليطه ، كم تمنيت وصاله ومحاورته والتقرب إليه ، لكنها ظلت أمنيات .. أمنيات حية تلازمني وتراودني أياماً وأياماً .
وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع ، كان ذلك أول الشهر وكان معي راتبي ، وجدت في المعرض محركاً بقوة حصانين ، ثمنه يعادل مرتبي كله ، فأخرجت الراتب ودفعته ، وحملت المحرك وكان ثقيلا جداً ، وذهبت إلى حجرتي ووضعته على المنضدة ، وجعلت أنظر إليه كأنني أنظر إلى تاج من الجواهر ، وقلت لنفسي : هذا هو سر قوة أوروبا.. لو استطعت أن اصنع محركاً كهذا لغيرت اتجاه تاريخ اليابان ، وطاف بذهني خاطر إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى ، مغناطيس كحدوة الحصان ، وأسلاك وأذرع دافعة ، وعجلات وتروس وما إلى ذلك ، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقه نفسها التى ركبوها بها ثم شغلته فاشتغل .. أكون قد خطوت خطوة نحو سر موديل الصناعة الأوروبيه .
بحثت في رفوف الكتب التى عندي ، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات ، وأخذت ورقاً كثيراً ، وأتيت بصندوق أدوات العمل ، ومضيت أعمل .. رسمت منظر المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه ، ثم جعلت أفكك أجزاءه ، قطعة قطعة ، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورق بغاية الدقه وأعطيتها رقماً ، وشيئاً فشيئاُ فككته كله ، ثم أعدت تركبيه وشغلته فاشتغل ، كاد قلبي يقف من الفرح ، واستغرقت العمليه ثلاثة أيام ، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة ، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل .
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال : حسناً ما فعلت ، الآن لابد ان أختبرك سآتيك بمحرك متعطل ، وعليك أن تفككه وتكتشف موضع الخطأ وتصححه وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل ، وكلفتني هذه العمليه عشرة أيام ، عرفت أثناءها مواضع الخلل ، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة صنعت غيرها بيدي .. صنعتها بالمطرقة والمبرد ، لقد كانت هذه اللحظات من أسعد لحظات حياتي ، فأنا مع المحرك جنباً إلى جنب ، ووجهاً إلى وجه ، لقد كنت سعيداً جداً رغم المجهود الكبير الذي بذلته في إصلاح هذا المحرك .. قربي من هذا المحرك أنساني الجوع والعطش .. لا أأكل في اليوم إلا وجبة واحده ، ولا أصيب من النوم إلا القليل ، ثم تأتي اللحظات الحاسمة لاختبار أداء عملي لإصلاح هذا المحرك بعدما جمعت أجزاء المحرك من جديد .. وبعد قضاء عشرة أيام من العمل الشاق ، أخذت يدي تقترب لإداء المحرك .. وكم كنت أحمل من القلق والهم في تلك اللحظات العصيبة ..هل سيعمل هذا المحرك؟ هل سأنجح بعدما أدخلت فيه بعض القطع التى صنعتها ؟! وكم كانت سعادتي واعتزازي بعدما سمعت صوت المحرك وهو يعمل .. لقد أصلحته .. لقد نجحت .
بعد ذلك قال رئيس البعثة عليك الآن أن تصنع قطع المحرك بنفسك ، ثم تركبها محركاً ، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمونيوم ، بدلاً من أن أعد رسالة الدكتوراه كما أراد أستاذي الألمان ، تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر معادن ، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي .. والأسرة السامورائية هي من أشرف وأعرق الأسر في اليابان ، لكنني كنت أخدم اليابان ، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء .
قضيت في هذه الدراسة والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشر ساعة في اليوم ، بعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة ، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة .
وعلم الميكادو ( إمبراطور اليابان ) بأمري ، فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهباً، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة وأدوات وآلات وعندها أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد نفذت ، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته خلال تلك السنوات الماضيه لاستكمال إجراءات الشحن .
وعندما وصلنا إلى ناجازاكي قيل لي إن الميكادو يريد أن يراني ، قلت لن أستحق مقابلة إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً استغرق ذلك تسع سنوات .. تسع سنوات من العمل الشاق والجهد المتواصل.
وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات " صُنعت في اليابان " قطعة قطعة ، حملناها إلى القصر ، ووضعناها في قاعدة خاصة بنوها لنا قريباً منه ، ثم أدرنا جميع المحركات العشرة ، دخل الميكادو وانحنينا نحييه وابتسم ، وقال : هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي ، صوت محركات يابانيه خالصة .. هكذا ملكنا الموديل وهو سر قوة الغرب ، نقلناه إلى اليابان ، نقلنا قوة أوربا إلى اليابان ، ونقلنا اليابان إلى الغرب ، وبعد ذلك الحدث السعيد ذهبت إلى البيت فنمت عشر ساعات كامله لأول مرة في حياتي منذ خمس عشر سنة .
كيف أصبح تاكيو أوساهيرا عظيماً ؟
كانت لتاكيو رؤية واضحة وأهداف محددة عما يريد ، وذلك منذ اللحظه التى اغترب عن بلده إلى ألمانيا ، أكثر من ثماني عشر سنه وهذه الرؤية واضحة لديه لا لبس فيها ، عاشت معه تلازمه كأنفاسه التى تتردد بين جنبيه ، قلّ لها نومه ، وكثر معها سهره ، و زَهَدَ في أكله وشرابه ، وترك من أجلها شهادة الدكتوراه .. ترك كلمات التفخيم والإجلال .
تضحيات وقراءة وعمل مستمر لأكثر من ثماني عشر سنة ، إلا أنه مطمئن لقراراته ، مستمتع بما يفعل ، إنه يرى دنو أحلامه .. أحلامه التى نسجت في خياله بدأت تظهر في واقعة ، إنه يراها .. فأسرع لها الخطي وهانت من أجلها كل العقبات .. إن مضمار سابق الجري ليشهد بصحة ما أقول ، فمجرد أن تقع عيني اللاعب على خط النهاية إلا وتراه قد نسي تعبة وانطلق سريعا كالسهم .
كنت أحد المشاركين في دورة بناء الذات الوالدية التي نظمتها مدرسة التكامل العالمية لأولياء الأمور ، والتى قدمها الدكتور إبراهيم محمد الخليفي ، لقد قسم الدكتور إبراهيم المشاركين المائة على أربع وعشرين طاولة ، فأصبح تقريبا كل أربعة مشاركين يشكلون فريقاً واحداً .. وفي بداية الدورة وزع الدكتور على المجاميع نوع من ألعاب التركيب ، وهي عبارة عن صورة مفككة إلى أجزاء كرتونية سميكة يقوم المتدربون بإعادة تشكيل الصورة بناءاً على الصورة الورقية المرقفة مع اللعبة ، لكن لم يكن هذا هو الحال عند كل المجاميع ، لقد قام الدكتور بسجب الصورة الورقية من اثنى عشر مجموعة وأبقى الصورة الورقية عند المجاميع الأخرى ، حدد الدكتور زمن الإنطلاق ثم أطلق صافرة البداية فهبت المجاميع للعمل لتركيب الصورة المطلوبة .. فماذا تتوقع أن يحدث ؟
لقد أصبح المشاركون على حالين ، المشاركون الذين يملكون الصورة الورقية والتى تمثل ورقة الحل ، وكان عملهم منظماً وسريعاً ومثمراً ، أما المجاميع التى حرمت من ورقة الحل ، كان عملهم متخبطاً فوضوياً وبطيئاً .. ولعلك الآن أن أدركت ماذا حدث .
المجاميع التى تملك ورقة الحل ترى الصورة المطلوب تنفيذها ، إنها تراها بوضوح ، فأصبح عملهم سريعاً منظماً هادئاً قلتّ فيه التساؤلات والإعتراضات ، أما المجاميع التى حرمت ورقة الحل فقد رأيتها في حيص بيص ، هذا يقترح وهذا يعترض وهذا يسأل ، وهذا ملّ واكتفى بالمراقبة وشرب الشاي ، إنهم مجتهدون في العمل ولكن لا يعرفون ماذا يريدون ، لقد فقدوا الرؤية الواضحة ، لقد فقدوا سر النجاح .
كل العظماء والناجحين كانت لديهم رؤية واضحة عمّا يريدون ، كانت لديهم أهداف واضحة ومحددة بِكَمٍّ وزمن .. ما المنصب الذي أسعى إليه ؟ ما مقدار المال الذي سوف أجمعه ؟ متى يقع ما أخطط له بعد سنه ، أم بعد خمس ، أم بعد عشرين سنه ؟
اجتمع عبدالله بن عمر ، وعروة بن الزبير ، ومصعب بن الزبير ، وعبدالملك بن مروان بفناء الكعبة ، فقال لهم مصعب تمنوا .
فقالوا : إبدأ أنت .
فقال : ولاية العراق ، وتزوج سكينة ابنة الحسين ، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله .. فنال ذلك وأصدق كل واحدة خسمائة ألف درهم ، وجهزها بمثلها .
وتمنى عورة بن الزبير الفقة ، وأن يحمل عنه الحديث ، فنال ذلك .
وتمنى عبدالملك الخلافة فنالها.
وتنمى عبدالله بن عمر الجنة .
العجيب أنهم كانوا يجدون ما تمنوا وزيادة ، يقول ستيفن كوفي في كتابة إدارة الأوليات :
ويمكن القول ان الواقع أثبت أن الأفراد والمنظمات التى تضع أهدافاً واضحة للوصول إليها تحقق نتائج أفضل ، وأن الواقع يثبت أيضاً أن القادرين على وضع الأهداف ، والقادرين على الوصول إليها ، يحققون ما يحلمون بالوصول إليه ".
حدثني الدكتور بشير الرشيدي - أستاذ علم النفس بجامعة الكويت - بقصة رجل إنجلزي اسمه جراهام ، كان المستر جراهام مديراً لإحدى الجامعات البريطانيه ، في عام 1978 م كان المستر جراهام قد بلغ الستين من عمره ، ولذلك لابد أن يحال إلى التقاعد ويترك العمل في الجامعة ، وبهدذه المناسبة فإن الجامعة نظمت لمديرها السابق المستر جراهام حفلاً وداعياً دُعي له العمداء وأساتذه الجامعة والشخصيات التربوية ، وفي يوم الحفل والذي كان مكتظاً بالأساتذه الأكاديميين ، وبعض الشخصيات التربوية البارزة ، دُعي المستر جراهام لإلقاء كلمة ، كعادة مثل هذه الاحتفالات.
صعد المستر جراهام إلى الخشبة المسرح الكبير ، ووقف أمام اليكروفون بكل ثقة الدنيا فقال : وضعت لنفسي عشرين هدفاً لابد أن أحققها خلال العشر سنوات القادمة - ما أن قال ذلك حتى كثر الهمس والإبتسامات الساخرة من بعض الحضور - .. أكلم المستر جراهام حديثه بكل ثقة فقال : الهدف الأول : أريد بيتاً مساحتة عشرة آلاف متر مربع ، والهدف الثاني : أريد تذاكر سفر لمدة عشر سنوات قادمة .. أريدها لبناتي الثلاث وأزواجهن وأطفالهم ، لكي تزورني كل بنت منهم مع زوجها وأطفالها ثلاثة أشهر بالسنه .. الهدف الثالث .. ثم عد المستر جراهام ثمانيه عشر هدفا أخرى يسعى لتحقيقها .
وبعد عام واحد فقط ، عام 1979م تولد تاتشر رئاسة الوزراء في بريطانيا ، فشكلت وزارة جديدة كعادة الساسة الذين يتولون هذا المنصب ، يأمل بهم رئيس الوزراء تطوير البلاد وإصلاح الفساد ، وإرضاء العباد ، وكان من ضمن الناس الذين استدعتهم تاتشر بعد توليها لمنصبها هو المستر جراهام ، وذلك لتعيينه مستشاراً لسياسة الجامعات البريطانبه ، آملةً أن يقول بإصلاح التعليم وتطويره .
رفض المستر جراهام العرض المغري معتذراً بأهداف العشرين التى لم يحققها .. هذا المنصب سيمنعه عن تحقيق أهدافة ، هذا العمل سيأخذ الكثير من وقتي ، ولابد أن أفكر بتحقيق أهدافي قبل أن أفكر بتحقيق أهداف الآخرين ، إنك يا سيدة تاتشر إن حققتي لي هذه الأهداف فأنا لا أمانع من أن أتولى هذا المنصب.
فقالت السيدة تاتشر : ما أهدافك ، هل أستطيع أن أسمعها منك ؟
فقال المستر جراهام : الهدف الأول : بيت مساحته عشرة آلاف متر مربع ، والهدف الثاني .. والهدف الثالث .... وهكذا حتى استعرض أهدافه العشرين كلها .
قالت تاتشر : لا مانع عندي أن أحقق جميع أهدافك العشرين ، ولكن على شرط واحد ، أن ترجع مليكه البيت بعد موتك إلى الدولة البريطانيه .
وافق المستر جراهام على هذا ، وتولى منصبة الجديد ، مستشاراً لسياسة الجامعات البريطانيه، حقق أهدافه العشرين وأصبح يتملك بيتا في قلاسكو في أسكتلندا مساحته أثنى عشر ألف متر ، لقد طلب بيتاً بمساحة عشرة آلاف متر ، ولكنه نال أكثر وهو شأن الحالمين أصحاب الرؤى الواضحة .
إن اختيار السيدة تاتشر كان موفقاً ، كانت وزارة التربيه في بريطانيا تتحمل كل التكاليف الدراسية للطالب الجامعي ، وبعد تولى المستر جراهام لمنصبه ، أصبح الطالب يتحمل ثلاثة أرباع التكلفة وتتحمل الدولة عنه الربع الباقي ، لقد وفر المستر جراهام مليارات الجنيهات للدولة .
ويأتي عام 1991 م وتُقال وزارة تاتشر ، ويُقال مستشاريها ليخلو المكان لرئيس وزارء جديد بوزراء واستشاريين جدد ، لقد كان المستر جراهام أحد المقالين من منصبهم .
قرر مدراء الجامعات البريطانيه عمل احتفال لتوديع المستر جراهام الذي بلغ الثانية والسبعين من عمره ، كانت هناك كلمة للمستر جراهام في هذه الحفلة الوداعية قال فيها :
وضعت لنفسي عشرين هدفاً أسعى لتحقيقها في السنوات العشر القادمة - الناس في القاعه ما بين منبهر وساخر ومبتسم - أكمل المستر جراهام حديثه كالعادة بثقة ملحوظة ، الهدف الأول : أسعى لتأسيس مركز اتصالات سيكون الأول والأقوى في العالم ، والهدف الثاني ... والهدف الثالث ......
يقول المستر جراهام للدكتور بشير الرشيدي : في القرن التاسع عشر من يسيطر على التوابل سيكون الأقوى في العالم ، وعام 1857 م استعمرت بريطانيا الهند فامتلكت توابل الهند وصارت الدولة التى لا تغيب عنها الشمس ، وفي قرن العشرين من يسيطر على النفط سيكون الأقوى في العالم ، فسيطرت أمريكا على منابع النفط في الخليج ، أما القرن الواحد والعشرين من يسيطر على الأتصالات فسيكون هو الأقوى يا دكتور ، لابد أن نملك قوة الإتصالات حتى تعود لبريطانيا صدارتها على العالم .
لقد أعلن المستر جراهام مخططاته لهذا المركز عام 1991م ثم مضى زمن لم يلتفت أحدٌ له ولا لمخططاته ، وبعد بضع سنوات من حفلته تلك خصصت بريطانيا للمستر جراهام جزيرة يبنفذ بها حلمه ويقيم بها مركزه ، لقد خرجت الأحلام من رأس حاملها إلى أرض الواقعه ، لقد شُيِّد المبنى وأصبح الحلم حقيقة لامراء فيها .
توقعك هو واقعك ، نطلب منك فقط أن تحلم وترى شيئاً لنفسك ، كن كعمر بن عبدالعزيز الذي يقول :" إنَّ لي نفساً تواقة ، تافت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجها ، وتاقت إلى الإمارة فَوُلِّيتُها ، وتافت نفسي إلى الخلافة فأدركتها ، وقد تاقت إلى جنه ، فأرجو أن أدركها ، إن شاء الله عز وجل "
كان الشيخ أقشمس الدين الذي تولى تربيه السلطان محمد الفاتح العثماني - رحمه الله - يأخذ السلطان محمد بيده ، ويمر به على الساحل ويشير إلى أسوار القسطنطينية التى تلوح في الأفق من بعيد شاهقة حصينة ، ثم يقول له : أترى إلى هذه المدينه التى تلوح في الأفق ؟ إنها القسطنطينية ، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أمته سيفتحها بحيشه ، ويضمها إلى أمة النوحيد ، فقل عليه الصلاة والسلام فيما رُوي عنه : " لَتَفْتَحُنَّ القسطنطينية ، ولنعِم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش ".
ومازال الشيخ بالصبي ، يريه المدينة ، يكرر على مسامعة ذلك الحديث الشريف ، يشعره ببهجة النصر وعزة الفتح .. الأحلام تتحقق عندما تراها ، تسمعها ، تشعر بها .. انظر إلى جيشك وهو يدك القسطنطينيه ، اسمع هتافات التكبير ، تذكر شعورك السعيد حينئذ .
إن المُعلم يرسم صورة واضحة ورؤية جلية لتلميذه ، صورة يعيش معها ولها ، ياله من حلم جميل ، وهدف كريم .
دعونا نكمل ما حصل لذلك التلميذ من تشجيع ذلك المعلم وتلك الرؤية المبكرة .
لقد نمت همة الأمير الصبي وترعرعت في قلبه ، فعقد العزم عى أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بَشَّر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
كان والده السلطان مراد الثاني يستصحبه معه وهو صغير إلى بعض المعارك ، ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ، ومناظر الجنود في حركاتهم واستعداداتهم ونزالهم ، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً ، حتى إذا ما ولي السلطنة ، وخاض غمار المعارك خاضها عن دراية وخبرة.
ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية ، فلما بلغة رفض الإمبراطور تسليم المدينة ، قال- رحمة الله - : حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر.
حاصر السلطان محمد القسطنطينية واحداً و خمسين يوماً ، تعددت خلالها المعارك العنيفة ، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التى استعصت على الفاتحين قبله ، على يد بطل شاب له من العمر ثلاث وعشرون سنه .. بتأييد سماوي ورؤية واضحة مبكرة وعمل دؤؤب سقطت القسطنطينية .
أشتغل بأهدافك أولاً ثم انشغل مع أهداف الآخرين ..
لتكن لك أهداف ورؤى خاصة بك ، أهداف لك وحدك ، أهدافٌ تُسهرك إذ ينام الآخرين .. تشغلك إذ يغفل الآخرين ..
ترشدك إذ يتيه الآخرين .
وعندما تختار رؤيتك وأهدافك الخاصة فاستفت قلبك أولاً وأسأله عما إخترت ... اسأله مرة بعد مرة ، اصغ إليه .. اصغ إليه ...
اإصغ إليه جيداً .. إنه مرشدك ولن يضيعك ، أنت أخبر الناس عن نفسك ، أنت تعرف ماذا تحب وماذا تتقن ، أنت أعلم الناس بمهاراتك ومعلوماتك وأحاسيسك ، افحص أهدافك تحت ضوء النهار ، افحصها جيداً وناقشها مع نفسك ، هل تسعدك وترويك هذه الأهداف ، أم أنها أوهام نسجها لك الآخرين ؟
إن أصحاب الرؤى الواضحة والأهداف المحددة يتميزون بالآتي :
1- يحققون أهدافهم وما يقوف أحلامهم .
في الدراسه التى أجريت على جامعة " ييل " في عام 1953 فقد سُئل الخريجون عمّا إذا كانت لديهم أهداف واضحة محددة ومدونة في تخطيط لتحقيق هذه الأهداف ـ أظهر 3% فقد أن لديهم هذه الأهداف ، وأن 97% منهم ليس ليهم أي أهداف واضحة أو محددة ، وبعد عشرين عاماً أي في عام 1973 م اكتشف الباحثون من الأفراد الذين بقوا على قيد الحياة من خرجي دفعة 1953 ، أن الـ 3% الذين كانت لديهم أهداف محددة ، كانوا يمتلكون من المال أكثر مما كان يملكه مجموعة النسبة الباقية منهم مجتمعين ، والذين يبلغون 97%
2- أكثر تفاؤلاً واستقراراً وأمناً :
أندرية أجاسي الحائز على بطولة ويمبلدون للتنس في عام 1992م يقول إنه فاز ببطولة ويمبلدون للتنس آلاف المرات عندما كان عمره 10سنوات !! فقط في خياله .. هذه الرؤية واضحة والمستمرة منحته ثقة داخلية أدت به في النهاية إلى تلك الحقيقة التى حدثت في صيف 1992م عندما فاز بالبطولة .
واكتشف فيكتور فرانكل عالم النفس النمساوي اكتشافاً مهماً خلال فترة اعتقاله في معسكرات النازية بهذا السؤال المهم : ما الذي جعل بعض الناس يعيشون هذه الخبرة المريرة " الأعتقال " بينما مات الأغلبيه ؟!.
السبب الرئيس الذي اكتشفه داخل الناجين من هذه المأساة هو وجود الإحساس بالرؤية المستقبليه ، لقد سيطر على كل من نجح في البقاء يقيناً بأن لهم مهمة في الحياة يجب استكمالها ، وأن لهم مهام حيوية مازالوا في حاجة إلى الإنتهاء منها .
3- أكثر تركيزاً وتوجيهاً .. إنهم يعلمون ماذا يطلبون وماذا يتركون :
رحل يحيى بن يحيى إلى الإمام مالك وهو صغير ، وسمع منه وتفقه ، وكان مالك يعجبه سمته وعقله ، رُوي أنه كان يوماً عند مالك في جملة أصحابه ، إذ قال قائل :" قد حضر الفيل " فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه ، وبق يحيى مكانه ولم يخرج فقال له مالك : لِمَ لا تخرج فترى الفيل لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال له يحيى :إنما جئتٌ من بلدي لآنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك ولم أجيء لأنظر إلى الفيل ، فأعجب به مالك وسماه : عاقل أهل الأندلس.
لم يستكمل تاكيو أوساهيرا دراساته العليا ، لقد ترك الدكتوراره والمركز والجه وذهب إلى مصنع صهير الحديد ، وذهب إليه عاملاً ببدلة زرقاء ، ثماني سنوات وحالة كحال مئات العمال في هذا المصنع، ولا يعرفه أحد ، ولا يأبه به ، يخدم رئيسه حتى في وقت راحته .
اختار المصنع لأنه طريقه إلى أحلامه ومراده ، الحالم يعرف ماذا يمسك وماذا يترك .
جان رجل من الأعراب إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فآمن به واتبعه ، ثم قال : أهاجر معك ، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلما كانت غزاة، غَنِمَ النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، فقسَّمَ وقَسَمَ له ، فأعطى أصحابه ما قسم له ، وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوا إليه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قِسْمٌ قسمه لك النبى صلى الله عليه وسلم ، فأخذه ، فجاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : ماهذا قال : قسمته لك ، قال ما على هذا اتبعتك ، ولكم اتبعتك على أن اُرمَى ها هنا - وأشار إلى حلقة - بسهم فأموت فأدخل الجنه ، فقال صلى الله عليه وسلم :" إن صدق الله يصدقك ".
فلبثوا قليلاً ، ثم نهضوا في قتال العدو ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابة سهم حيث أشار ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : أهوا هو ؟ قالوا : نعم ، قال صدق الله فصدقه ، ثم كفنه النبي صلي الله عليه وسلم في جبته ، ثم مهاجراً في سبيلك ، فقتل شيهداً ، وآنا شهيد على ذلك .
أذكر أني كنت أستاذاً للعلوم والأحياء في مدرسة يوسف بن عيسى القناعي ، وقد جاءني الأستاذ القدير والمربى الفاضل أستاذ الكيمياء الأستاذ علي فراج المدرس الأول يزف لي بشرى سارة ، قال لي : عندي خبر سعيد ، ولكن قبل أن أقول لك هذا الخبر ، يجب أن توعدنا بإفطار محترم لقسم العلوم ، فوعدته بالإفطار إن كان الخبر - كما يقول -خبرا ًسعيداً.
أعطاني الورقة التي كان يخبئها في جبيه ، قرأت الورقه ، وإذا هي كتاب ترشيح لوظيفة مدرس أول لمادة الأحياء ، كتب في أسفل الورقه كلمتين : مواقف ، وغير مواقف ، ولا بد أن أشير إلى أحدهما ، أخذت الورقه وبدون تردد وأشرت بعدم المواقفه .
لم يصدق الأستاذ علي قراري هذا ، فأجذ ينصح ويلوم ، امسح ما كتبت .. واقف على الترشيح ولا تضيع الفرصة على نفسك .. ولم أزد على قولي له : إني أعرف ماذا أفعل ، إني أطلب شيئاً آخر .
احلم بأهدافك وهي تتحقق ، تخيل وانظر إلى نفسك وأنت تحقق أحلامك ، انظر إلى نفسك وأنت تبتسم وقد أصبحت رئيس شركة الكمبيوتر التى حلمت بها ، انظر إلى نفسك في مكتبك العظيم تجلس على كرسيك الوفير ، تخيل أنك تسمع ثناء الناس عليك اسمع التهنئات و التبريكات ، تخيل شعورك السعيد ، وأنت الآن في أحلى اللحظات وأسعدها ، ياله من شعور عظيم .
صدقني لن تحقق ما تريد إلا بعد أن تحلم وتحلم وتحلم .
قال تعالى :" أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صرِاَطٍ مُّسْتَقيمٍ" (1)
بقي بن مخلد الأندلسي
الجزء الثاني(1)
يحدث بقي بقصته فيقول :
رحلتُ ماشياً على قدمي من بلدي الأندلس ( تدعى اليوم أسبانيا ) فذهبتُ إلى مكة ثم إلى بغداد - الطائرة تحتاج إلى ست ساعات حتى تقطع هذه المسافة ، فكم من الشهور مشى بقي بن مخلد حتى يقطع هذه المسافة ؟!
كان همي و بغيتي ملاقاة أحمد بن حنبل ، فلما دخلتُ بغداد بلغتني محنة الإمام أحمد ، وما حلّ به ، وأنه ممنوع من ملاقاة الناس ، فاغتممت غماً شديداً .
لقد سُجن الإمام أحمد سنتين وأربعة أشهر في مسألة خلق القرآن ، ورفض موافقة الخليفة المأمون ومن بعده الخليفة المعتصم على القول بأن القرآن مخلوق ، فسجنه وعذبه.
وفي هذا يقول الإمام أحمد بن حنبل :" لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم ، وقال : ائتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا ، فجعل يتقدم إليَّ الرجل فيضربني سوطين ، فيقول له : شد قطع الله يدك ، ثم يتنحى ، ويقوم آخر ، فيضربني سوطين ، وهو يقول في كل لك :"شد ، قطع الله يدك " ، فلما ضُرِبتُ تسعة عشر سوطاً قام إليَّ، وقال : يا أحمد علامَ تقتل نفسكَ؟ إني والله عليك لشفيق ، أتريد أن تغلب هؤلاء؟
وجعل بعضهم يقول : ويلك الخليفة على رأسك قائم.
وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين ، دمه في عنقي ، اقتله .
فقال المعتصم : ويحك يا أحمد ، ما تقول .
فأقول : أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به .
فرجع المعتصم وجلس ، وقال للجلاد : تقدم وأوجع ، قطع الله يدك .
ثم قام المعتصم الثانية ، فجعل يقول : ويحك يا أحمد أجبني .
فجعل الناس يقبلون عليَّ ويقولون : يا أحمد ، إمامك على رأسك قائم.
وجعل المعتصم يقول : ويحك أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك يدي.
فقلت : يا أمير المؤمنين ، أعطوني شيئاً من كتاب الله .
فيرجع ، ويقول للجلادين : " تقدموا " ، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى.
قال أحمد : فذهب عقلي .
قال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي : دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب ، فقلت له في بعض كلامي : يا أبا عبدالله ، عليك عيال ولك صبيان ، وأنت معذور - كأني أسهل عليه الإجابة - فقال لي أحمد : إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد، فقد استرحتَ.
وبعد الضرب الشديد والسجن، خاف المعتصم أن يموت الإمام أحمد، فيثور الناس عليه ، فرفع عنه الضرب وسلمه إلى أهله ، فبقي نختفياً طوال مدة خلافة المعتصم والواثق .
اشتد الواثق في مسألة خلق القرآن كثيراً ، وساعده على ذلك وزيره أحمد بن أبي دؤاد ، الذي استولى على الواثق وحمله على التشدد في المحنة ، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن ، استمر الواثق على ذلك حتى ملّ المحنة وسئمتها نفسه فرجع عنها في آخر عمره .
هذا أبو عبدالرحمن بن محمد الآذرمي شيخ أبو داود والنسائي يحمل مكبلاً بالحديد من بلاده إلى الواثق ، فسأله ابن ابي دؤاد في مجلس الواثق عن قوله في القرآن .
فقال له الشيخ : هذا الذي تقلوله يابن دؤاد من خلق القرآن شيء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبوبكر وعمر وعثمان وعلي أم جهلوه ؟
قال ابن أبي دؤاد : بل علموه .
قال الشيخ : فهل دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أو سكتوا ؟
فقال : بل سكتوا .
قال الشيخ : فهلا وسعك ما وسعهم من السكوت ؟
فبهتوا وضحك الواثق ، وقام قابضاً على فمه وهو يقول : هلا وسعك ما وسعهم ويكررها ، ثم أمر أن يُعطى الرجل ثلاثمائة دينار ويُرد إلى بلده ، ولم يمتحن أحد بعدها ، وسخط على ابن أبي دؤاد من يومئذ .
ويتابع بقي حديثه فيقول :
أجَّرتُ بيتاً أنام فيه تلك الليلة ، وفي فجر اليوم التالي دخلتُ المسجد فإذا برجل يتكلم في الرجال - أن أنه يتكلم عن علم الرجال، وهو العلم الذي يهتم بحال الرجال ، ويحدد أمانتهم وصدقهم وقوة حفظهم ، فقول عن هذا ثقة ، وعن آخر ضعيف ، وآخر كذاب ، وهذا صدوق ، وهذا ينسى .. وهكذا .
فقيل لي عن الرجل الذي يتحدث في المسجد ويتكلم عن حال الرجال : أنه يحيى بن معين ، صاحب الإمام أحمد ورفيقه في طلب العلم ، فأحببتُ أن أسأله عن بعض الرجال فحاولت أن أقترب منه ففرجت لي فرجة ، فدنوتُ منه وقمت إليه ، فقلت له : يا أبا زكريا، رحمك الله رجلٌ غريبٌ بعيدٌ عن وطنه ، يحب السؤال ولدي أسئلة كثيرة فاصبر عليَّ .
فقال : قل ، فسألت عن بعض من لقيته من الرجال، فبعضاً زكى وأثنى عليهم وبعضاً جرح وبيَّن سوء حالهم في حديث ، فسألته عن هشام بن عمار ، فقال لي : أبو الوليد صاحب الصلاة دمش ، ثقة ، وفوق الثقة، لو كان تحت رادئه كبرٌ أو متقلداً كبر اما ضره شيءٌ لخيرة وفضله .
فصاح أصحاب الحلقة تلاميذ يحيى بن معين : يكفيك - رحمك الله - غيرك له سؤال ، فقلت : لم يبق لي إلا سؤال عن ورجل واحد ، أحمد بن حنبل ، فنظر إليَّ يحيى كالمتعجب ، فقال لي : ومثلنا نحن نكشف عن أحمد ؟ ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم .
فخرجت من المسجد من فوري أستدل على منزل أحمد بن حنبل ، فدُللت عليه ، فقرعت بابه ، فخرج إليَّ.
فقلت : يا أبا عبدالله ، رجل غريب بعيد عن بلده ، هذا أول دخولي هذا البلد ، وآنا طالب حديث ومقيّد سُنّة ، ولم تكن رحلتي إلا إليك لأتعلم منك .
فقال لي : وأين موضوعك؟
قلت : المغرب الأقصى .
فقال : إفريقية ؟
قلت : أبعد من إفريقيه ، أجور من بلدي البحر إلى أفريقيه ، بدلي الأندلس.
قال : إن موضوعك لبعيد ، وما كان شي أحب إليَّ من أن أحسن عون مثلك وأبذل لك كل ما أستطيع، غير أني ممتحن بما لعله قد بلغك ، وآنا الآن لا يُسمح لي بملاقاة الناس والتحدث إليهم ، إني مسجون في بيتي .
فقلت : لقد بلغني ما أنت فيه ، وهذا أول دخولي بلدكم ، وآنا مجهول العين عندكم ، لا يعرفني أحد ، فإذا أذنت لي أن آتي كل يوم في ثياب الفقراء ، فأقول عند بابك ما يقوله الفقراء والشحاذون ،
فتخرج إليَّ عند بابك ، فلو لم تحدثني كل يوم إلا حديث واحد لكان لي فيه كفايه .
فقال لي : نعم على شرط الأ تظهر في الناس ولا يتعرف عليك أحد ولا تذهب إلى مجالس المُحدثين .
فقلت : لك شرطك ، فكنت آخذ عصاً بيدي ، وألف رأسي بخرقة متسخة وأجعل أوراقي في كمي ، وآتي بابه ، فأصيح : الأجر – رحمك الله – وهذا ما ينادي به الشحاذون في بغداد، فيخرج أحمد إليَّ ويدخلني بيته ويغلق بابه دوني ، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر ، فالتزمت ذلك حتى مات الخليفة الممتحنِ له الخليفة الواثق .
وَوُليَّ بعده من كان على مذهب السنه الخليفة المتوكل ، فقد أظهر ميلاً عظيماً إلى السنه ، فرفع المحنه وكتب بذلك إلى الآفاق واستقدم المحدثين إلى " سامرا " وأجزل عطاياهم وأكرمهم ، وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه وتعظيمه ، حتى قيل الخلفة ثلاثة أبو بكر الصديق في قتل أهل رده ، وعمر بن عبد العزيز في رد الظالم ، والمتوكل في إحياء السنه .
فقد نصر أحمد ونكّل بأعدائه ، فظهر أحمد وعلت إمامته ، وكانت تُضرب إليه آباط الإبل ، حتى بلغ منزلة لم يبلغها ملك ولا قائد ولا أمير.
لم ينس الإمام أحمد معناتي معه في طلب العلم فكان يعرف لي حق صبري ، فكنت إذا أتيت حلقته العظيمة ، وهو بين تلاميذه ، فسّح لي وأوسع لبي مجلسه ، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه ، فكان يقرأ عليَّ الحديث وأقرأه عليه .
ومرت الأيام وآنا على تلك المكانه عند أحمد ، حتى أصابني مرض فأرقدني في سريري ، ففقدني من مجلسه فسأل عني ، فأُعلم بعلتي ، فقام من فوره مقبلاً عليَّ عائداَ لي بمن معه ، وآنا مضطبجع في البيت الذي كنت قدّ أجّرت ، وكسائي عليَّ وكتبي عند رأسي ، فسمعت الفندق قد ارتج بأهله ، وآنا أسمعهم : هو ذاك أبصروه ، وهذا إمام المسلمين مقبلاً .
فأسرع إليّ صاحب الفندق قائلاً : يا بقي هذا أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً عليك ، عائداً لك ، فدخل فجلس عند رأسي ، وقد امتلآ الفندق من أصحابه فلم يسعهم ، حتى صارت فرقة منهم في دار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم ، فما زادني على هذه الكلمات .
فقال لي : يا أبا عبدالرحمن أبشر بثواب الله ، أيام الصحة لا سقم فيها ، وأيام السقم لا صحة فيها ، أعلاك الله إلى العافيه ، ومسح عنك بيمينه الشافيه ، فرأيت الأقلام تكتب لفظه ، ثم خرج عني ، فأتاني أهل الفندق يلطفون بس ويخدمونني ، فواحد يأتي بفراش ، وآخر بلحاف ، وبأطايب الأغذيه ، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنتُ بين أظهرهم .
قام بقي بن مخلد القرطبي الأندلسي برحلتين إلى مصر والشام والحجاز وبغداد طلباً للعلم ، أمتدت الرحله الأولى أربعة عشر عاماً ، والثانيه عشرين عاماً .
ولقد كان ارتحاله كله من الأندلس وعلى قديمه
نعم والله عليه قدميه !!.
وللكتاب بقية ان شاء الله في مقبل الايام
للامانة منقول لكي تعم الفائدة
عدل سابقا من قبل bykooo في الجمعة نوفمبر 13, 2009 4:40 am عدل 2 مرات (السبب : اضافة توضيح)
الجمعة سبتمبر 26, 2014 8:27 am من طرف غالاس عزيز
» زمان الجدب العدد الخامس
الجمعة مايو 25, 2012 11:07 am من طرف karameldin
» اجمل النكات السودانية هها هااااااااااااااااااااااااي
الإثنين أغسطس 08, 2011 5:58 am من طرف حسن علي
» مساطيل زى الفل
الإثنين أغسطس 08, 2011 5:38 am من طرف حسن علي
» ردو عليا يا شباب لو سمحتو
الأحد سبتمبر 26, 2010 5:21 pm من طرف حسام الدين تاج الدين
» حمل طرح مناظره الجبهه الديمقراطيه مع مؤتمر الطلاب المستقليم جامعه نيالا
الجمعة سبتمبر 24, 2010 2:26 pm من طرف حسام الدين تاج الدين
» فشل اعضاء المنتدى
الجمعة سبتمبر 24, 2010 1:50 pm من طرف حسام الدين تاج الدين
» جيناكم فى نيالا
الإثنين أغسطس 02, 2010 9:40 am من طرف محمد صلاح الفركاوى
» اين انتم
السبت يوليو 10, 2010 11:10 am من طرف مصطفى حجير